![]() |
منصور باشا بن جمعة الكويكبي يعزل متصرف لواء الإحساء (نجد) [1] عن منصبه 1321هـ - 1322هـ / 1903م
واجه العثمانيون خلال فترة حكمهم لمنطقة الإحساء (1288- 1331هـ/ 1871- 1913م) خلافات بين رموز السلطة فيها، بعضها كان خفياً، والبعض الآخر كان يطفو على السطح؛ و كان لكل ذلك انعكاساته على الوضع في المنطقة، ومن المؤكد أن ما كان يحدث في منطقة الإحساء بمدلولها التاريخي والجغرافي، كان يحدث أيضاً في أرجاء مختلفة من الدولة العثمانية بما فيها مركز السلطة نفسها، وبخاصة خلال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1293- 1327هـ/ 1876- 1908م) وما أعقبها.
ويحتوي أرشيف رئاسة مجلس الوزراء في استانبول (BOA) (Bas Bakanlik Osmakli arsivi).على العديد من الوثائق، سواء كانت مراسلات أم تقارير كشفت النقاب عن تلك الخلافات بين رموز أجهزة السلطة العثمانية سواء أكان ذلك في المركز استانبول أم في ولاياتها المتعددة وأطرافها.
وفي حوزتنا وثيقة مصدرها أرشيف رئاسة مجلس الوزراء وهي عبارة عن رسالة مقدمة من منصور باشا بن جمعة - أحد كبار التجار في القطيف وأحد رموز السلطة العثمانية فيه - إلى السلطان العثماني آنذاك عبد الحميد الثاني وفحواها يدور حول قضيته مع متصرف الإحساء السيد طالب النقيب [2] مكتوبة باللغة العثمانية.
سنتناول تلك القضية وفق ترابطها الموضوعي والزمني مع تسليط الضوء على ما كان يحيط بها من أحداث. وبقراءة متمعنة لتلك الرسالة نجد أنها تدور حول محاور ثلاثة تساعد في الكشف عن طبيعة الوجود العثماني في الإحساء وعلاقة رموز تلك الأجهزة ببعضهم البعض والمبنية على روح المنافسة وعدم التلاؤم، وأثر ذلك على علاقة الأجهزة بالسكان في المنطقة.
أبرز المحور الأول من الرسالة سياسة السلطان عبد الحميد الثاني تجاه الولايات العربية، حيث انتهج السلطان عبد الحميد الثاني سياسة مختلفة عن سابقيه تجاه الولايات العربية فقد أبدى اهتمامه بها واعتمد عليها في إنقاذ إمبراطوريته مما تعانيه من أزمات اقتصادية حادة، ولتعويض ما فقد منه من أراضٍ في الولايات البلقانية. لقد أخذ اهتمام السلطان عبد الحميد الثاني بالولايات العربية صوراً متنوعة ومختلفة، منها تأكيده على أن تكون الولايات العربية ولايات من الدرجة الأولى فيما يتعلق برموز السلطة فيها، ودفع مرتبات عالية لهم تفوق أمثالهم في الولايات الأخرى، واختيار أفضل رموز السلطة من ذوي الخبرة والمراس لإدارتها. ومن مظاهر الاهتمام أيضاً منحه الكثير من الوجهاء العرب البارزين الهدايا والألقاب الباشوية، وتكريمه لعلماء الدين وتقريبهم إليه بل وأسكنهم في قصره خلال فترة زيارتهم إلى استانبول.[3]
لقد أوضح منصور بن صالح بن جمعة في رسالته ذلك الاهتمام من السلطان عبد الحميد الثاني به كأحد رموز السلطة العرب وأحد الوجهاء البارزين في القطيف حيث يشير في رسالته إلى ذلك فيقول: إنه حاصل على رتبة أمير الأمراء، والوسام المجيدي من الدرجة الثانية، وإنه من أصدقاء الدولة، وعمل رئيساً فخرياً للأملاك السلطانية في القطيف منذ أكثر من عشرين عاماً، وإن الخدمات التي قدمها للدولة كثيرة، إلا أنها لا تساوي مقدار واحد في الألف مما حصل عليه من الإنعام والتكريم المميزين من جناب السلطان ورموز أجهزة السلطة العثمانية في المركز استانبول والولاية. وإنه يعيش في أمن وأمان في ظل حكومة السلطان، كما أنه حاز على مكانة مرموقة بين أقرانه بفضل جناب السلطان. ويختتم المحور الأول بالدعاء للسلطان بطول العمر وأنه يعترف بتلك الثقة التي أولاها له السلطان ويفتخر بها.[4]
يحاول ابن جمعة في هذا المحور من رسالته أن يكشف النقاب عن الوجه الحقيقي للسيد طالب النقيب تجاه الدولة العثمانية والرأي العام، من خلال علاقاته برموز السلطة والقوى المحلية، إضافة إلى إبراز أوجه العلاقة معه شخصياً. حيث يشير ابن جمعة في رسالته إلى ذلك قائلاً: «إن السيد طالب النقيب قد حصل على لقب نقيب الإشراف في البصرة [5] بالقوة والرشاوى ومن خلال علاقته مع أبي الهدي الصيادي [6] الذي يحظى بمكانة مرموقة واهتمام بالغ منقطع النظير لدى السلطان عبد الحميد الثاني آنذاك».
كما أوضح ابن جمعة في رسالته ألاعيب السيد طالب النقيب تجاه الدولة العثمانية ويذكر في هذا الصدد أن السيد طالب النقيب يحاول إظهار إخلاصه وتفانيه للدولة من جهة ومن جهة أخرى تجده يلعب دوراً بارزاً في إثارة القلاقل والاضطرابات وذلك بتحريض الزعامات المتسببة في تلك الاضطرابات وأنه يهدف من وراء ذلك إلى أن تلجأ له الدولة وتستعين به لإخماد تلك المشاكل وهذا ما حدث فعلاً مع بعض المشاكل التي تعرضت لها السلطة العثمانية في لواء الإحساء سواء مع القوى السياسية المحلية، كقضية الشيخ قاسم آل ثاني مع رموز السلطة [7] ، أو قضية شيخ الكويت مبارك الصباح أيضاً أو مع القوى القبلية كقيام آل سعدون في البصرة بإثارة القلاقل والاضطرابات ضد والي البصرة [8] ، وكقيام آل مرة والعجمان بأعمال سطو ونهب للقبائل التجارية وإثارة الرعب والخوف لأهالي المنطقة.[9]
أبان أيضاً ابن جمعة في رسالته الفساد الإداري للسلطة العثمانية في المركز والأطراف حيث يقول: إن السيد طالب النقيب طلب منه عشرة آلاف روبية كرشوى ليقدمها إلى أبي الهدى الصيادي من أجل أن يضفي عليه الشرعية باستخدام لقب نقيب أشراف البصرة.[10] ويذكر ابن جمعة في رسالته أن العقل المدبر لشيخ الكويت مبارك الصباح هو السيد طالب النقيب فهو الذي لعب الدور البارز في الصراع الدائر بين شيخ الكويت والشيخ يوسف الإبراهيم [11] . ولعب أيضاً دوراً بارزاً في إدخال الكويت تحت الحماية البريطانية.[12]
يناقش ابن جمعة في رسالته أبعاد قضيته مع السيد طالب النقيب حيث يذكر في هذا الصدد ما يلي: إن السيد طالب النقيب بعدما أصبح متصرفاً على الإحساء بدأ بتصفية حساباته معه لكون (ابن جمعة) امتنع عن إعطائه ما يريد من رشاوى ولكونه المنافس القوي لصديقه الشيخ مبارك الصباح في تجارة اللؤلؤ. فأمر فائق باشا القائد العسكري للواء الإحساء (نجد) بأن يتوجه إلى القطيف وفي معيته مدير التحريرات، وعدد من الشرطة، وأمين الصندوق والذهاب إلى منزل منصور بن جمعة بحجة البحث عن الأسلحة الممنوعة الذي يعتقد أنه يتاجر فيها، وكذا بعض المنشورات المضادة للدولة العثمانية وقام القائد العسكري بمهاجمة المنزل واستولى على أكثر من خمسين ألف ليرة وكثير من المجوهرات، وقاموا بتعذيب أخيه عبد الحسين أفندي، بل إنهم استولوا على بعض أملاكه وأعطوها للغير، وأخذوا المحصول السنوي لأراضيه الزراعية بالكامل بحجة تعداد بساتين نخيله.
ويستطرد ابن جمعة في أحداث قضيته قائلاً: إن ما نسب إليه من أنه ضبط في منزله أوراق ومنشورات معادية للدولة وكذا العديد من الأسلحة؛ كل ذالك غير صحيح. حيث إن تلك الأوراق والمنشورات المضبوطة قد جلبت مع القائد العسكري ووضعت في منزله أثناء الهجوم عليه. أما الأسلحة فهي عبارة عن بنادق يحتفظ بها لحماية رجاله العاملين في سفن الغوص الخاصة به. أما المدفع الذي حصلوا عليه فهو عبارة عن مدفع قديم وصغير غير صالح للاستعمال وأن لديه شهادة ومحضر من مجلس إدارة القضاء بأنه غير صالح للاستعمال.
وفي ختام رسالته يشير ابن جمعة بأنه أرسل العديد من المعروضات في المظالم التي ارتكبها السيد طالب النقيب عبر قنوات متعددة لأجهزة السلطة العثمانية في اللواء والولاية، منذ عدة أشهر، وأنه أرسل مئات البرقيات، إلا أن أمراً سلطانياً في حقه لم يتخذ، ويبرر ابن جمعة ذلك الأمر بأنه متأكد ومتيقن بأن تلك الرسائل لم تعرض على جناب السلطان، الأمر الذي جعله يقوم برفع شكواه إلى جناب السلطان مباشرة لرفع ظلم السيد طالب النقيب، والاستماع لصرخته، وأنه يلتمس العذر من جناب السلطان على هذا التجاسر وأن اللطف والإحسان من جناب السلطان.
ويبدو أن هذه الرسالة بعد ما وصلت إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وقرأ ما جاء فيها واتضحت له حقائق كان بعيداً عنها أصدر أمره بعزل السيد طالب النقيب من متصرفية الإحساء. حيث إن تاريخ كتابة تلك الرسالة وعزل السيد طالب النقيب متقاربين جداً.
واستناداً لما ذكر في رسالة ابن جمعة فإنه يمكننا القول: أن تلك الرسالة ساعدت على كشف النقاب عن وجه السيد طالب النقيب وألاعيبه الملتوية تجاه الدولة العثمانية، وأنها أبرزت حقيقة العلاقة بين رموز السلطة العثمانية مع بعضهم البعض تلك العلاقة المبنية على روح المنافسة وعدم التلاؤم بدلاً عن الانسجام والتعاون، الأمر الذي أثر مما لا شك فيه سلباً على سلوكهم وتصرفاتهم وانعكس ذلك على أسلوب ممارستهم للسلطة في أجهزة الدولة المختلفة وعلاقتهم بأهالي المنطقة.
ولعل ما ذكره محمد رؤوف الشيخلي أحد رموز السلطة العثمانية في لواء الإحساء خير دليل على ذلك فيقول: « ولا يخالطون (أي السكان) هؤلاء الذين يسمونهم بالعسكر مطلقاً، وإذا كان أحد السكان قد خالط أحد موظفي السلطة العثمانية في الإحساء فإنه يشار إليه بالبنان بأنه خالط العسكر، وإن مدة بقائي (أي بقاء الشيخلي) في لواء الإحساء لم يحصل أي ائتلاف بين الأهالي وموظفي الحكومة حيث ترى كل على حدة ولا يتزاورون ولا يتخالطون...».[13]